آفاق الفيزياء

كيف يقدم مبدأ عدم اليقين لهايزنبيرج نظرة جديدة للحقيقة

زهراء حسين هاني

قسم الفيزياء/الجامعة اللبنانية

نشر في ٦ أبريل ٢٠٢٤

لدى كل فيزيائي صوت خفي يهمس بداخله سائلا: "كيف تعمل الأشياء حولنا؟" فضول غريب يدفعه لمواصلة بحثه في اكتشاف سر من أسرار الكون... أسئلة كثيرةٌ ال تفارق ٌ ذهنه: هل للفضاء حدود؟ ما مفهوم الزمن؟ ما العلقة التي تربط اإلنسان بالنّجوم؟ كيف يمكن لحبّة ضوء أن تح مل في طيّاتها ك ل هذه االإكتشافات التي وصلت اليها الفيزياء؟

لدى الفيزيائي حل أن يملك الإجابة الدقيقة بما يكفي لكل هذه ألأسئلة وغيرها.

تجيبنا الفيزياء عليها من خلل دراسة الظواهر الطبيعية والخصائص والأنظمة المختلفة، وتبحث عن سبب حدوثها والعوامل والتأثيرات التي تدفعها لتتصرف بشكل معين أو تكون على ما هي عليه الآن.

وتمكنّا فعلا بفضل الفيزياء الكلسيكية من إيجاد القوانين القابعة في كل نظام فيزيائي وبدقة عالية؛ ومن أشهرها: قوانين "نيوتن" للحركة، قانون الجاذبية العالمية، ومعادلات "ماكسويل" للكهرومغناطيسية، وغيرها الكثير...

لكن فيما بعد بدأت الفيزياء تأخذ منحا جديدا إلى أن أحدثت تغييرا جذريّا ونقلة نوعيّة عندما انتقلت دراستنا من الأجسام على المستوى الكبير الى الأجسام على المستوى دون الذ ّري، في عالم لا نكاد نراه بأعيننا، إنما من خلل التجربة والبحث

إ ّن معرفة ما يحدث على هذا المستوى يتطلب لغةا فيزيائيةا جديدةا خا ّصة، إنها الفيزياء الحديثة وميكانيك الكم، العلم الرائد الذي أحدث ثورة في فهمنا للكون على المستوى الذّري، إنّه يعبّر عن غموض عميق يتغلغل في أعماق الذ ّرات. في هذا العالم يتبدل المألوف فيصبح غير المألوف مألوفا، إنه عالم الغرابة والشك والإحتمالات... هنا تتحقق الخيالات الفيزيائية وتتلقى الحقائق الكمومية مع معاني الوجود

تطورت "ميكانيكا الكم" أوائل القرن العشرين على أيدي أهم علمائها "ماكس بلنك، نيلز بور، ارفيه شرودنجر، ألبرت آينشتاين، ورنر هايزنبرغ" وغيرهم الكثير الذين تركوا دورا بارزاا في تط ّور هذا العلم، و سجدوا أهم المفاهيم بلغة رياضية جديدة، تتضمن شتّى المعادلات الطويلة والمعقّدة

لطالما بقي عند المطالعين في ميكانيكا الكم انطباعٌ بأ ّن الظواهر الكمومية تؤدي فقط إلى عدم الدقة في القياسات الفيزيائية، وأ ّن هذا النوع من الفيزياء هو من الخدعة بمكان لشدة الغرابة التي تكتنفها ، لكن ما لا يعرفه الكثير أ ّن ميكانيكا الكم تجلب دقّةا غير مسبوقة مقارنةا بما هو في الأنظمة الكلسيكية، فإذا نظرنا في الضوابط الأساسية للفيزياء وجدنا أ ّن تحديدها وحسابها اعتمد مبادئ في ميكانيكا الكم باستثناء واحد وهو: قيمة ثابت الجاذبية Gدقتها هي آلاف من المرات أسوأ من جميع الثوابت الأخرى، وبعض الثوابت ليس فيها شك على الإطلق مثل بعض الكميات المحددة هي e, h, c ...

قيمة G هي الثابت الأساسي الوحيد الذي لا يعتمد على نوع من النظام الكمومي ،ويتم تحديده باستخدام نظام كلسيكي. حتى الآن لم يكتشف أحد كيفية تحويل تحديد G إلى قياس كمي، والذي من المحتمل أن يتطلب نظرية كمية للجاذبية على الأقل.

ما يميز مبدأ عدم اليقين أنه الوحيد الذي يضع لنا قيوداا على دقة القياس، وذلك ليس بسبب افتقارنا للتكنولوجيا أو مهارة الملحظة إنما بسبب الطبيعة المتأصلة بالأنظمة الكمومية نفسها، فهناك حدو ٌد متأصلةٌ لل ّدقّة التي يمكننا بها قياس أزواج مع ّينة من الكميات المادية في وقت واحد.

فيما يلي سنتعرف على هذا المبدأ بالتفصيل والذي يعتبر من أهم وأول الأفكار في عالم ميكانيكا الكم. من أين أتى هذا المبدأ؟ ما معناه الفيزيائي؟ ما أهميته؟ ما هي معادلاته؟

في عام 1925 ط ّور Werner Heisenberg -المولود في ألمانيا، والحائزعلى جائزة نوبل عام 1932- أول شكليّة رياضية لميكانيكا الكم، وفي عام 1927 ق ّدم هايزنبرغ معادلاته الخاصة بهذا العنوان:

“On the descriptive content of the quantum theoretical kinematics and mechanics"

لنعود قليلا للفيزياء الكلسيكية، فالقوانين الأساسية مثل قوانين "نيوتن" هي حتميةٌ، ويمكن حل معادلات حركة نظام "ذي قوى معيّنة" لتعطينا موضع وزخم الجسيم في كل قيم الزمن.

وإن كل ما نحتاجه لمعرفة الموقع الدقيق وزخم الجسيم عند قيمة معينة للوقت هو تحديد الظروف الأولية، ومن ثم افترض علماء الفيزياء الكلسيكية بشكل طبيعي أنّه في عالم الأنظمة المجهرية يمكن تحديد موضع وزخم جسيم مثل الإلكترون بدقة من خلل الملحظات بطريقة مماثلة، إلا أن هايزنبرغ شك في هذا الافتراض. يجب علينا أن نسأل أنفسنا كيف نقيس الموقع والزخم فعليّا؟ هل يمكننا من خلل التجربة ا الفعلية في نفس اللحظة تحديد الموقع عند زخم المادة أو الإشعاع؟. الجواب الذي قدمته نظرية الكم: ليس بدقة أكبر مما يسمح به مبدأ عدم اليقين.

\[ \Delta p \Delta x \geq \frac{\hbar}{2} \]

لماذا الموقع والزخم في هاتين الخاصيتين بالذات؟ ما المميز فيهما؟ سنتعرف معاا على بعض الرياضيات الأساسية في ميكانيكا الكم، ونب ّين الاشتقاق الرياضي لمبدأ عدم اليقين، وهي:

وعلى العكس من ذلك فإ ّن الملحظات تكون غير قابلة للتنقل إذا

\[ [A,B] \neq AB-BA = 0 \]

⁠المعنى الفيزيائي للعناصر غير التنبؤية(Non-commuting observables):

عندما نواجه عدم التنقل تنشأ مجموعةٌ من الآثار المه ّمة منها عدم اليقين، وينص مبدأ عدم اليقين على أنّه من المستحيل أن يكون لأي اثنين من العناصر الملحوظة غير التنقلية قيمة محددة للحالة الكمومية لكل الملحظتين في وقت واحد.

فإذاا الموقع والزخم هي عناصر غير متنقلة، لهذا نراها في مبدأ عدم اليقين.

دعونا الآن نو ّضح الأصل لمبدأ عدم اليقين عبر استخدام تجربة فكرية:

لنفترض أنّنا نرغب في قياس موضع جسيم مثل الإلكترون بأكبر قدر ممكن من الدقة، فنحن بحاجة لمجهر لرؤية الإلكترون، ولكي نراه يجب أن نضيئه، وفي هذه المرحلة وقبل إجراء أي حسابات يمكننا أن نرى ظهور مبدأ عدم اليقين؛ أي إ ّن فعل مراقبة الإكترون ذاته يزعجه، إذ إنّه في اللحظة التي نضيء فيها الإلكترون فإنّه يرتد بسبب تأثير كومبتون( Compton effect) بطريقة لا يمكن تحديدها بالكامل، ويع ّبر هذا المبدأ عن حقيقة أ ّن هناك تفاعلا دائماا غير مح ّدد بين ال ّراصد والمرصود، ولا يوجد شيء يمكننا القيام به لتجنب التفاعل.

يتطلب مبدأ الحفاظ على الزخم(Conservation of Momentum) أن يتلقى الإلكترون زخماا ارتدادياا في الاتجاه "x" يساوي تغير الزخم "x" في الفوتون، وبالتالي فإ ّن الزخم "x" للإلكترون غير مؤكد بنفس المقدار.

إذا أخذنا الآن حاصلة ضرب عدم ال ّدقة فسنجد أنّها تتوافق بشكل معقول مع الح ّد النّهائي \(\frac{\hbar}{2} \) الذي حدده مبدأ عدم اليقين، ولا يمكننا أن نجعل \(\Delta p_x \) و \(\Delta x \) صغيرين في نفس الوقت بالقدر الذي نرغب فيه؛ لأ ّن الإجراء الذي يجعل أحدهما صغيراا يجعل الآخر كبيراا وهنا ّّ يمكننا القول: إننا توصلنا إلى ذلك من خلل ظاهرة فيزيائية قابلة للقياس حقا، وهي تحديدا تأثير كومبتون.

لا ينبغي أن تكون هذه النّتائج غامضة، فهي نتيجةٌ مباشرةٌ لتكميم الإشعاع، حيث ينبغي أن يكون لدينا فوتون واحد على الأقل يضيء الإلكترون، وحتى فوتون واحد يحمل كمية زخم ذات قيمة \(p= \frac{\hbar}{\lambda}\) ، فإ ّن فوتونا منفردا يكفي لأن يوفر التفاعل الضروري بين المجهر والإلكترون، وهذا التفاعل يؤثر على الجسيم بطريقة لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم فيها بدقة. ونتيجة لذلك لا يمكن معرفة إحداثيات وزخم الجسيم بشكل كامل بعد القياس.

ومرة أخرى نرى من \( \Delta p \Delta x \geq \frac{\hbar}{2}\) أ ّن ثابت بلانك هو الحد الأدنى من الاضطراب الذي لا يمكن السيطرة عليه، والذي يميز فيزياء الكم عن الفيزياء الكلاسيكية.

يع ّد قانون الحفاظ على الطاقة أحد المبادئ الأساسية في الفيزياء، ولكن على مستوى ميكانيكا الكم يجد المرء ثغرة صغيرة في هذا المبدأ، ويتم إيجاد هذه الثغرة في مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ، وقد يتم التعبير عن هذا المبدأ بشكل أنيق في الرياضيات.

\[ \Delta E \Delta t \geq \frac{\hbar}{2} \]

تعني هذه العلقة أ ّن حالة معينة ذات عمر قصير ستجد تغيراا كبيراا في الطاقة...

تخيل مساحة فارغة لا تحتوي على طاقة، فمن دون الطاقة لا شيء يمكن ان يتغير إذ هي المحفز للتغيير، إلا أ ّن المعادلة تشير إلى كون الطاقة يمكن أن تتقلب لفترة قصيرة.

إذا كان الأمر كذلك، فربما تكون هناك طاقة كافية لتكوين جسيم، و من أجل تحقيق مبدأ التوازن في الطاقة (Conservation of energy) يجب أن يختفي الجسيم بسرعة حتى يتم إطلق الطاقة وتعود البقعة المعينة إلى متوسط الطاقة الصفري

نحن نسمي هذه الجسيمات -سريعة الزوال والتي تنتهك مؤقتا قانون الحفاظ على الطاقة- بالجسيمات الافتراضية(Virtual particles). إن المساحة الفارغة ليست فارغة تماما، ويتم إنشاء أزواج افتراضية من الجزيئات تدوم لفترة قصيرة، ثم يفني بعضها البعض الآخر من أجل موازنة ال ّطاقة، وهذا هو المعلوم من ميكانيكا الكم بأنّه عندما نكتشف أحجاماا أصغر من أ ّي وقت مضى يصبح العالم الكمومي أكثر اضطراباا من أ ّي وقت مضى

ومن هنا وبنا اء على ما تقدم نجد أ ّن ميكانيكا الكم تبقينا في عالم من الغموض والتحديات، إذ كلّما فكرنا أننا نقترب من معرفة الحقيقة نجد أنفسنا أمام رحلة طويلة من البحث والمحاولات، وكأنها تظهر لنا جهلنا بطبيعة الواقع المادي.

وهنا نستذكر قول العالم "هايزنبرغ": "الواقع الذي يمكننا وصفه في كلمات هو ليس الواقع أبدا".

وعليه إ ّن لمبدأ عدم اليقين نتائج لا تدرك أسبابها؛ وذلك لأ ّن ال ّظواهر الكمومية تحمل في طيّاتها دائماا احتمالات لا نهائية لحدوث أي شيء، مما يجعلنا نتوه في الأسباب، وسيكون بل معنى معرفتنا للسبب أو عدم المعرفة.

وأخيراا نرى أن الخوض في دلالات ميكانيكا الكم يثير أسئلةا دفينةا معرفيةا ووجوديةا مهمة، فهو يظهر نشاط العلم المقلق، وأحكامه ح ّمالة الأوجه، والتي تجعله نشاطاا إنسانيّاا بامتياز، ملبياا شغف العالم والفيلسوف والفنّان، وقبل ذلك كله وبعده ... شغف الإنسان.

المراجع